سيكولوجية السعادة من منظور إسلامي
المقدمة:
في عالم متسارع تكثر فيه التحديات وتتزايد فيه الضغوطات اليومية، يجد الإنسان المعاصر نفسه في سعي حثيث نحو السعادة والطمأنينة النفسية. تلك العملة المفقودة التي ما فتئ يبحث عنها في التعلق بالماديات الزائفة وتيار الحياة الجارف. في هذا السياق، تنبثق العديد من الأسئلة الجوهرية من نظير: لماذا لا نشعر بالسعادة على الرغم من وفرة وسائل الترفيه والراحة من ضروريات وكماليات؟ هل السعادة مجرد لحظات عابرة أم هي منهج حياة متكامل؟ ثم ما السبيل إلى بلوغها وتذوق معانيها؟
في هذا المقال، سنحاول الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها، من خلال عرض دقيق لمفهوم السعادة من منظور إسلامي، مع ذكر أحدث ما قيل في هذا الباب في مجال علم النفس الإيجابي، سنبحث عن وصفة شاملة للسعادة تجمع بين الدين والعلم، لنصل في النهاية إلى فهم عميق للسعادة الحقيقية.
مفهوم السعادة في الإسلام
السعادة الحقيقية في الإسلام حالة روحية عميقة، نابعة من التقرب إلى الله سبحانه وتعالى والأنس به. فهي لست مجرد شعور عابر بالفرح أو المتعة، بل تتجسد في طمأنينة دائمة ورضا عميق، ينبعان من تذوق حلاوة الإيمان وممارسة العبادات بإخلاص.
وقد أكد القرآن الكريم هذا المفهوم في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]. فهذه الآية تربط بشكل وثيق بين الإيمان والعمل الصالح وبين الحياة الطيبة، مشيرة إلى أن السعادة الحقيقية تبدأ في الدنيا وتمتد لتصل إلى الآخرة.
إن الإيمان، بما يمنحه من شعور بالرضا والقناعة، يحرر الإنسان من أسر الهموم الدنيوية ، ويمنحه سكينة داخلية عميقة. وهذا بالضبط ما أشار إليه نبينا الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: “من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا” [رواه الترمذي]. فالمؤمن، بفضل إيمانه، يستشعر الغنى والرضا حتى مع يسير الرزق، مما يجعله في سعادة دائمة.
وتتعمق هذه السعادة من خلال ممارسة العبادات التي شرعها الله، كالصلاة والصيام والحج. فهذه العبادات ليست مجرد طقوس، بل هي وسائل روحية عميقة تربط بين الإنسان وخالقه، وتجدد صلته به كلما جرفته تيارات الحياة. لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “وجعلت قرة عيني في الصلاة” [مسند أحمد]. ويقول :” أرحنا بها يابلال” [رواه أبو داود] مشيرًا إلى الراحة النفسية العميقة التي تمنحها الصلاة للمؤمن.
ويأتي ذكر الله كعنصر أساسي في تحقيق الطمأنينة والسعادة، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم، قال جل وعلا: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]. فذكر الله يزيل القلق والخوف، ويملأ القلب بالسكينة والراحة، مما يشكل أساسًا متينًا للسعادة الحقيقية.
ومن جمالبة الإسلام أنه يقدم منهجًا شاملًا للسعادة يتجاوز الظروف المتغيرة. فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين كيف يمكن للمؤمن أن يكون سعيدًا في جميع أحواله : “عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ” [رواه مسلم]. فالمؤمن، بفضل إيمانه، يجد الخير في كل حال، فهو في حال النعم شاكر ، وفي حال المصائب صابر.
ولا يغفل الإسلام الجانب الاجتماعي في تحقيق السعادة، إذ يؤكد على أهمية صلة الأرحام كسبب لزيادة الأرزاق وتحصيل البركة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ” [رواه البخاري ومسلم]. فالحفاظ على العلاقات العائلية وصلة الأرحام من أهم أسباب تحقيق السعادة في الحياة.
لا شك أن الإسلام بهذا يقدم منظومة متكاملة للسعادة، تجمع بين الإيمان والعمل الصالح، والصبر والشكر ،وذكر الله وصلة الرحم. هذه المنظومة لا تعتمد فقط على الظروف الخارجية، بل تنبع من داخل الإنسان ومن علاقته بربه، مما يجعلها سعادة حقيقية ودائمة، تتجاوز تقلبات الحياة وتحدياتها.
فسيولوجيا السعادة والتدين
وتتوافق هذه المفاهيم الإسلامية للسعادة مع ما توصل إليه علم النفس الحديث في دراسة العلاقة بين التدين والصحة النفسية. فقد أظهرت الدراسات أن ممارسة الشعائر الدينية والأنشطة الروحية تساعد على زيادة إفراز هرمونات السعادة في الجسم، مثل السيروتونين (Serotonin) والدوبامين (Dopamine) والأوكسيتوسين (Oxytocin) والإندورفين (Endorphin). وتحسين الحالة المزاجية للفرد.
فالصلاة مثلًا، تعتبر وسيلة فعالة للتواصل مع الله والشعور بالراحة والسكينة، حيث تساعد على تخفيف التوتر وتقليل هرمون الكورتيزول المسبب للضغط النفسي، وفي الوقت نفسه تعزز إفراز هرمون السيروتونين المسؤول عن تحسين المزاج والشعور بالرضا. كما أن الصيام له تأثير إيجابي على الصحة النفسية والعاطفية للإنسان، إذ يساهم في زيادة مستويات الإندورفين(Endorphin) الطبيعية التي تقلل من الشعور بالألم وتبعث على السعادة والنشوة.
وبشكل عام، فإن الالتزام بتعاليم الدين والتحلي بالأخلاق الفاضلة ينعكس إيجابًا على الحالة النفسية للفرد ويعزز شعوره بالطمأنينة والسعادة. فالإيمان يمنح الإنسان القوة والصلابة في مواجهة تحديات الحياة، والعمل الصالح يشعره بقيمته وأهميته ويدفعه للمزيد من العطاء والإنتاجية
السعادة في علم النفس الإيجابي: نموذج سيلجمان” Martin Seligman“
وتتلاقى هذه الرؤية الإسلامية للسعادة مع ما يطرحه علم النفس الإيجابي، الذي يركز على دراسة العوامل المساهمة في تحقيق السعادة والرفاهية النفسية للأفراد. ومن أبرز النماذج في هذا المجال نموذج مارتن سيلجمان ” Martin Seligman“ الذي يؤكد على أهمية المشاعر الإيجابية والاندماج والعلاقات الإيجابية والمعنى والإنجاز في تحقيق السعادة.
ويقترح سيلجمان أن السعادة الحقيقية تتكون من ثلاثة عناصر رئيسية هي:
- 1. الحياة الممتعة : وتشمل الخبرات الإيجابية والمشاعر السارة.
- 2. الحياة الجيدة : وتتضمن الاندماج في الأنشطة التي تتوافق مع قيم الفرد وقدراته.
- 3. الحياة ذات المعنى : وتعني الارتباط بهدف أسمى وخدمة ما هو أكبر من الذات.
- وهذه العناصر تتوافق إلى حد كبير مع المنظور الإسلامي للسعادة، فالحياة الممتعة تتحقق من خلال الشعور بالرضا والامتنان لنعم الله، والحياة الجيدة تتمثل في الاندماج في العبادات والأعمال الصالحة، والحياة ذات المعنى ترتبط بالإيمان بالله وطاعته وخدمة خلقه.كما يشير سيلجمان إلى أهمية تنمية نقاط القوة والفضائل لدى الفرد، وهو ما يتوافق مع تعاليم الدين الإسلامي التي تحث على التحلي بالأخلاق الحميدة. فالإسلام يدعو إلى تنمية الفضائل كالصدق والأمانة والعدل والإحسان، ويعتبرها سبيلًا لنيل رضا الله وتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.
وصفة السعادة: بين الدين والعلم
بناءً على ما سبق، يمكننا استخلاص وصفة شاملة للسعادة تجمع بين تعاليم الدين الإسلامي وما توصل إليه علم النفس الحديث ان تتبعنا مايلي:
- 1. تقوية الإيمان والتمسك بأركان الإسلام وأداء العبادات بإخلاص وتدبر. يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
- 2. التحلي بالأخلاق الفاضلة والسمات الإيجابية كالصبر والتواضع والإيثار. يقول النبي ﷺ: “ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق” [رواه الترمذي].
- 3. الاندماج في الأنشطة التي تتوافق مع الفطرة السليمة والميول الإيجابية، كالعلم والعمل والإبداع. يقول تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105].
- 4. الارتباط بهدف سامٍ يتجاوز حدود الذات ويسعى لخدمة الدين والمجتمع والإنسانية. يقول النبي ﷺ: “خير الناس أنفعهم للناس” [رواه الطبراني].
- 5. الموازنة بين متطلبات الروح والجسد، والاعتدال في الدنيا دون إفراط أو تفريط. يقول تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77].
الخاتمة:
في ختام هذا المقال، يتضح لنا أن السعادة الحقيقية لا تكمن في الماديات الزائلة، بل في التمسك بالقيم والمبادئ السامية التي جاء بها الدين الإسلامي، والتي تتوافق مع ما توصل إليه علم النفس الإيجابي من أهمية تنمية الفضائل والمشاعر الإيجابية. فبالإيمان والعمل الصالح، والسعي الدائم للتقرب إلى الله وكسب رضاه، يمكن للإنسان أن يحقق السعادة والطمأنينة النفسية التي طالما بحث عنها.
إن السعادة ليست مجرد هدف نسعى إليه، بل هي رحلة داخلية تبدأ بمعرفة الذات والتصالح معها، وتنتهي بالتوجه إلى الله والتوكل عليه. وفي هذه الرحلة، يمكننا الاستفادة من توجيهات الدين الحنيف وما توصل إليه العلم الحديث، لنصل إلى تلك الحالة من الرضا والطمأنينة التي تمنح للحياة معنى وقيمة.
فالطريق إلى السعادة يبدأ بخطوة، وهذه الخطوة تبدأ بالنية الصادقة والعزيمة القوية. فلنبدأ رحلتنا من هنا، ولنجعل من سعادتنا هدفًا نبيلًا نسعى إليه بكل ما أوتينا من قوة وإيمان.