المراكز البحثية الفلسطينية بين الواقع والمأمول
بقلم معاذ صبحي عليوي باحث وكاتب فلسطيني
مقدمة:
تعد المؤسسات والمراكز البحثية بشكل عام عاملاً مسانداً وفاعلاً رئيسياً في صناعة وإتخاذ القرار أي كان نوعه داخل أي مجتمع من المجتمعات لما له من أهمية في تعزيز الثقة ما بين تلك المؤسسات وصانع القرار داخل تلك المجتمعات. وعند الحديث عن الحالة الفلسطينية، ولكون مؤسسات ومراكز الأبحاث حديثة النشأة إلى حدٍ ما فإن إسهاماتها في صناعة القرار تبقى ضعيفة وضئيلة جداً وهذا عائد إلى أمرين في غاية الأهمية ألا وهما: حداثة تلك المؤسسات من الناحية التكوينية فلم يمضِ على نشأتها أكثر من عقدين من الزمن رغم تأسيسها في تمانينات القرن الماضي إلا أنها لم تستطع أن تعكس نفسها كمؤسسات فكر قادرة على فرض نفسها من خلال برامج فعالة تسهم إسهاماً فاعلاً في حل العديد من المشكلات التي تعترض صانع القرار أو ملامسة الواقع من خلال تقديم دراسات حيوية تمس قطاعات المجتمع، وفي غالبية الأحيان اقتصر دور تلك المؤسسات على تقديم و ترويج لفعاليات قد تستطيع أيّ مؤسسة القيام بها، الأمر الأخر وهو طبيعة التمويل المقدم لتلك المؤسسات فهو في غالبيته مشروط من مؤسسات أجنبية ممّا يقوض عمل تلك المؤسسات من ناحية البرامج والفعاليات ونوعية الدراسات التي تقدمها للمجتمع ممّا ينعكس سلباً على طبيعة الدور والتأثير الذي أنشأت من أجله كمؤسسات ذات طابع تفكيري تسهم بشكل مباشر في صناعة وإتخاذ القرار داخل المجتمع الفلسطيني.
في هذا المقال سوف نستعرض الواقع العام لتلك المراكز والدور المأمول منها مستقبلاً في تطوير الحالة الفلسطينية بحيث تكون جزءً مهماً وعاملاً مسانداً مع المؤسسات الفلسطينية العاملة داخل الأراضي الفلسطينية سواء من ناحية الخدمات والإستشارات المقدمَة لصنّاع القرار، أو المساهمة في تقديم الحلول بكافة أنواعها من خلال الفعاليات والأنشطة العلمية والتطبيقية والتي يتم ترجمتها على أرض الواقع بالتعاون مع المؤسسات الفلسطينية الحكومية والخاصة على حدٍ سواء.
أولاً: واقع بيئة عمل المراكز البحثية في فلسطين:
إن الدافع وراء تأسيس مراكز الأبحاث الفلسطينية هو الرد على الكتابات الصهوينية في كلٍ من أوروبا وأمريكا، والرد على أسئلة النكبة، والإسهام في تطوير أفكار حركات التحرر الوطني الفلسطيني وطرائق كفاحها والعمل في الميدان السياسي العالمي من خلال إعداد أوراق بحثية ذات مستوى علمي جيد من أجل تقديمها في المؤتمرات الدولية ، فضلاً عن مواجهة الإعلام الغربي المؤيد ” لإسرائيل” ودحض الرواية الفلسطينية عن فلسطين وتاريخها القديم.[1]
هذا من الناحية النظرية السياسية، أما من الناحية العملية فقد تشكل أول مركز فلسطيني للأبحاث عام 1965م، بقرار من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الوطنية الفلسطينية، وبعد وقت قصير من إعلان قيام منظمة التحرير الوطنية الفلسطينية في آيار مايو عام 1964م، صدر قرار عن المجلس الوطني الفلسطيني داعياً إلى تأسيس مركز التخطيط الفلسطيني كمركز تابع لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الوطنية الفلسطينية، بهدف مساعدة أعضاء اللجنة التنفيذية والقيادات الوطنية الفلسطينة في مجال التخطيط للسياسات الفلسطينية في عمليات اتخاذ القرار الفلسطيني.[2]
في نهاية عقد الثمانينات تميزت مراكز البحث الفلسطينية بمرحلة جديدة أخذت طابعاً تنموياً تمركز حول هدفين هامين وهما: الدفاع عن حقوق الإنسان خاصة ضد الإنتهاكات الإسرائلية و إنشاء المنظمات الخيرية الإسلامية مراكز جديدة ممّا أوجد حالة من التداخل بين تلك المؤسسات أدى إلى تشتت جهودها وأدوراها العملية على أرض الوافع، فضلاً عن ضياع الهدف والمقصد من تلك المؤسسات.
بعد نشأة السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994م، أخذت مراكز الابحاث الفلسطينية طابعاً جدلياً أنطوت على جدليات لعل أهمها: غياب مفهوم الدولة وإنتفاء الإستقلالية، والتمويل الخارجي المشروط في معظمه والذي حولها كنتيجة نهائية لمجرد مؤسسات رضائية تلبي رضا الممول الخارجي على حساب برامجها وفعالياتها وأنشطتها والتي تستوجب فعلاً ان تكون قريبة من المجتمع الفلسطيني وتلبي طموحه في بناء مؤسسات تنموية مستقلة تكون رافدةً له في كافة المجالات وطريقاً لبناء الدولة الفلسطينية المستقلة، إلى جانب غياب العلاقة التفاعلية المباشرة مابين صانع القرار والمراكز البحثية الفلسطينية وما نتج عن ذلك من فجوة كبيرة بينهما، بما لايجعل ماينتجه صانع القرار لايحدث التأثير المأمول والمطلوب، إلى جانب أنه يخشى من نتائج أي تفكير استراتيجي لأنها لاتستجيب لما يريده وتارةً أخرى تقيّد حركته، لذلك يلجأ إلى تقصير المسافة بينه وبين تلك المراكز حفاظاً على ديمومة العلاقات فيما بينهما مستقبلاً.
إلى جانب الجدليات المذكورة أعلاه هناك العديد من التحديات والصعوبات التي واجهت بيئة مراكز البحث الفلسطينية على مدار أكثر من 20 عاماً والتي تمثت تارةً في الإغلاق وعدم التواصل بين الباحثين في كللٍ من الضفة الغربية وقطاع غزة والذي أدى في مجمله إلى حرمانهم من فرصة تقديم أوراق علمية أو المشاركة في مؤتمرات أو ندوات دولية، إلى جانب عدم إهتمام المجتمع المحلي الفلسطيني بالمنتجات البحثية الصادرة عن تلك المراكز وهذا يعود إلى أمرين أولهما : غياب فلسفة المراكز البحثية بصيغتها العلمية والعملية داخل المجتمع الفلسطيني، حيث أن المتعارف عليه بأن تلك المؤسسات يقتصر عملها فقط على كتابة البحوث والدراسات للطلاب الجامعيين وإعداد دورات تدريبية في مجال التنمية البشرية، وأن هذه المراكز ربحية هدفها الحصول على المال بهدف ديمومتها واستمرايتها في العمل، ثانياً: أن المنتجات البحثية لتلك المراكز سواء فيما يتعلق بالدراسات والأبحاث لايكون هدفها تحسين الواقع الفلسطيني بقدر ما هو أن تكون دراسات وصفية كمية وليست نوعية مما يؤدي إلى عزوف الشارع الفلسطيني عن متابعتها أو التعامل معها، فضلاً عن ندرة المفكرين والمتخصصين في مجال مراكز البحث الفلسطينية والذي يضفي عليها بُعداً ذكورياً على حساب العنصر الأنثوي والذي من المفترض أن يكون فاعلاً مهماً داخل تلك المراكز جنباً إلى جنب مع الرجال العاملين، ونظراً لكثر ة الأعباء الملقاة داخل تلك المؤسسات من الناحية الوظيفة وما تحمله في طياتها من مسؤوليات جمًة سواء فيما يتعلق بالتنسيق اليومي مع المراكز البحثية سواء داخل الوطن وخارجه، أو الإعداد اليومي للمحاضرات والندوات والمؤتمرات، والذي من شأنه أن يحدّ من الدور الوظيفي الهام للإناث داخل تلك المراكز البحثية.
بالرغم من الصعوبات والتحديات التي واجهت المراكز البحثية الفلسطينية، وعدم إيلائها الإهتمام الكافي سواء من قبل صانع القرار الفلسطيني،أو وتوفير مصادر تمويل مستقلة لها تجعلها أكثر استقلالية وقدرة على الإنتاج العلمي والمعرفي في بناء هياكل مؤسساتية فاعلة إلى جانب المؤسسات الحكومية و الخاصة داخل المجتمع الفلسطيني، إلا أنه في الآونة الأخيرة ظهر تطور نوعي في حجم الأنشطة والفعاليات العلمية لتلك المراكز سواء من ناحية التشجيع على الإنتاج الفكري والثقافي والوطني خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية من جميع جوانبها سواء عن طرق إصدار الكتب العلمية والتي تجرى في غالبيتها ضمن أسس المنتج العلمي، وإقامة الفعاليات والمناسبات التي تؤرث وتحفظ حقوق شعبنا في الحفاظ على قضاياه العادلة، وهذا يجعلنا أكثر قدرة في استشراف الدور المأمول لها سواء في الوقت الحالي أو في المستقبل.
الدور المأمول لمراكز البحث الفلسطينية:
ينطلق الدور المأمول لمراكز البحث الفلسطينية من فهمها الحقيقي للبيئة التي نشأت من خلالها تلك المراكز وقدرتها على أداء أدوراها الوظيفية والمؤسساتية في رعاية البرامج والأنشطة والفعاليات العلمية ذات الأهمية الحيوية والتي تمس قطاعات مهمة داخل الشارع الفلسطيني، والتي باتت اليوم بحاجة إليها أكثر من أي وقت مضى، تارةً نظراً لإهميتها وتارةً أخرى نظراً لحجم المشكلات التي تعترض المجتمع بإكمله والذي يتطلب ترجمة تلك المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي يعايشونها في شكل دراسات وبرامج علمية، وتشكيل منصات للنقاش وتبادل الأراء بشأنها من قبل دوائر صنع القرار داخل الوزرات والمؤسسات المعنية ذات العلاقة بالشأن المحلي.
إن تشكيل المراكز البحثية الفلسطينية منصات علمية لوقوف على أهم التحديات والمشكلات التي تواجه تلك المراكز من خلال النقاشات العلمية وإصدار الدراسات والتقارير العلمية الدورية لايقل أهمية عن رعاية الكودار العلمية البحثية سواء داخل تلك المراكز أو من الذين يتم استقطابهم من خارج تلك المراكز سواء كانوا طلبة جامعيين أو باحثين يمتلكون أدوات بحثية علمية جديدة أو الذين يخضعون للتدريب، ممّا يتوجب متابعتهم ورعايتهم بشكل جيد والعمل على مكأفاتهم بين الفينة والأخرى حتى يكونوا قادرين على الإسهام الفعال داخل تلك المراكز من خلال تبنيهم قلسفات علمية بعيدة عن التعصب الحزبي والأيدلوجي والذي من شأنه أن يقتل روح المبادأة والأبتكار لديهم.
علاوة على ذلك يجب أن تكون تلك المراكز قادرة على فرض نفسها من خلال نوعية الفعاليات والبرامج التي تقدمها لصنّاع القرار داخل المجتمع الفلسطيني حتى تتبلور الثقة فيما بينهم وتصبح أكثر فاعلية وقدرة على المشاركة في رسم واتخاذ القرار السياسي والمساهمة في بناء وتشكيل صورة ايجابية عنها بدلاً من الإستعانة بالخبراء والكوادر الأجنبية من الخارج والتي في الغالب تكلفّ الحكومة والوزرات مبالغ مالية باهظة جداً، إضافة إلى أنهم لايحسنون صياغة الواقع المجتمعي الفلسطيني مثل الباحث الفلسطيني نفسه فهو أدرى بشؤون مجتمعه وبنيته التحتيه من الكوادر المستوردة من الخارج والتي في الغالب يتم احضارهم لإثبات أنهم أكثر قدرة على بناء المؤسسات والوزرات الفلسطينية بدلاً من الباحثين ذوي المهارات والكفاءات العالية.
إضافة إلى ذلك يجب أن تعمل مراكز البحث الفلسطينية على تشجيع الباحثين الجدد سواء خلال مرحلة الدراسة الجامعية أو في فترة الماجستير والدكتوارة من خلال تشجيعهم على تطوير شخصياتهم الذاتية والإستعداد للإنخراط في سوق العمل، إلى جانب تحفيزهم على التدريب على فلسفة البحث العلمي من خلال إعداد الدراسات والتقارير العلمية المنهجية ومساعدتهم على نشرها في مجلات علمية محكمة حتى تزداد ثقتهم بأنفسهم تارة وحتى تتكونّ لديهم منهجية علمية يكونون من خلالها أكثر قدرة على إعداد أبحاثهم ورسائلهم العلمية في مراحل الدراسات العليا بدون اللجوء إلى مكتبات يقومون بالكتابة نيابة عنهم.
بناءً على ماسبق رغم محدودية الإمكانات والموارد بمكوناتها البشرية والمادية التي تتمتع بها تلك المراكز البحثية إلا أنها تسعى بين الفينة والأخرى إلى تجديد ذاتيتها من خلال الإستفادة من الكودار العلمية العاملة داخل مراكزها من خلال توظيف تلك الطاقات العلمية في بناء مراكز بحثية فاعلة ونشطة وذات مستوى أكاديمي متقدم من خلال التنوع في الأنشطة والفعاليات العلمية والبحثية التي تسعى جاهدةً لأن تؤهلها الصدارة وتصبح قادرة على أن تكون مراكز ذات مستوى علمي وعملي من خلال جودة العلوم والمعارف المقدمة من طرفها، ونوعية الإصدارات العلمية ومدى ملامستها للشارع الفلسطيني وسعيها لتلبية احتياجاته من خلال توظيف ذوي القدرات والمهارات ممن يتمتعون من القدرات العلمية في صوغ تلك المراكز بحيث تتناسب مع احتياجات المجتمع ومتطلباته الأساسية وهذه هي الغاية الأسمى التي أنشأت من أجلها.
النتائج:
لقد واجهت مراكز البحث الفلسطينية منذ تأسيسها وحتى هذه اللحظات مشكلات جمًة سواء فيما يتعلق بالجانب الذاتي أو الموضوعي وهذا شئ أساسي في كل مؤسسة ناشئة تسعى لإن تكون في قمة المراكز المتقدمة، ولكن ما يميز الحالة الفلسطينية خصوصاً أنها مرت بتجارب مختلفة عن باقي الشعوب العربية المجاورة لها سواء فيما يتعلق بالإستقلالية أو الحصار الذي فرض على الشارع الفلسطيني وغياب الكوادر المؤهلة وفرص التعاون فيما بينها وبين المراكز العربية المجاورة، وانعدام ثقافة مراكز البحث لدى غالبية الناس مما أوجد العديد من العقبات والتحديات أمامها، لكنها في الآونة الأخيرة استطاعت تلك المراكز التغلب على تلك التحديات من خلال استثمار الطاقات المؤهلة والعاملة داخل الجامعات الفلسطينية أو الطلبة الباحثين الذين سنحت لهم الفرص للسفر وإكمال الدراسة في الخارج ، أو ممن حصلوا على فرص كافية من العمل البجثي والأكاديمي، مما أكسبهم العمل لدى تلك المراكز أو تشكيل مراكز جديدة كونت حلقة وصل بينهم وبين المؤسسات الأجنبية والعربية العاملة في نطاق التخصص ذاته، والذي من شأنه ساهم إلى حدٍ ما في استقطاب الكفاءات البحثية وتجسين صورتها أمام الرأي العام الشعبيي والرسمي من خلال التنوع في منجزاتها الأكاديمية والبحثية وقربها من الشارع الفلسطيني وملامستها لإحتياجه ومتطلباته اليومية.
الكاتب معاذ عليوي
المراجع:
صالح، محسن وآخرون. (2018). دور مراكز التفكير الإقليمية في عملية صنع القرار ( قضية فلسطين نموذجاً). بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
قاعود، يحيى.( 2016). “مراكز الفكر والدراسات الفلسطينية: الواقع والمأمول”. مجلة مركز التخطيط. العدد: 52-53. ص152- ص166.
مقال رائع يسلط الضوء علي مراكز الابحاث كما نتمني ان تتسع دائرة البحث سواء كان سياسي او اجتماعي او علمي في عموم الوطن العربي، حيث تكون تلك المراكز مصادر بحث موثوقة تغني،عن المصدر الاجنبي بوركت مؤسسة سفراء التميز والابداع علي،هذا التميز كما نفخر بها وبما تقدم علي صعيد الوطن العربي .