يحكى أن إماما لمسجد له ثلاثة أبناء، وكان يريد أن يخلفه أحدهم في إمامة المسجد، ولكنه لا يعلم أيهم أحق بذلك فقرر أن يختبرهم. فأخبر ابنه الأول بأنه سيلقي خطبة الجمعة لهذا الأسبوع، فما كان من الابن إلا أن امتثل لأمر أبيه وخطب بالمصلين، وبعد أن انتهى سأله والده عن انطباعه، وكيف يرى الناس وهو يخطب بهم؟ فرد عليه الابن: إن الأمر يا أبي أيسر مما تتصور، فما هي إلا وريقات تجمع أسطرها من هنا وهناك، ثم تحفظها، وتصعد المنبر وتسردها. وإني لأرى الناس صغارًا وكأنهم نمل. لم يعجب الأب برد ابنه، فطلب من الابن الثاني أن يستعد لخطبة يوم الجمعة القادم. وبعد أن ألقى خطبته سأله الأب مثل ما سأل الأول، وكانت إجابته قريبة من إجابة أخيه. مما أحزن الأب، ولم يتبق لديه إلا الابن الثالث، فطلب منه مثل ما طلب من أخويه، وبعد أن انتهى سأله الأب كيف رأيت الناس يا بني؟ فأجابه الابن: إن الأمر ليس باليسير، فلا بد من الاستعداد واختيار ما يناسب جماعة المصلين، وإني أراهم عظماء كالقصور، والقصور تدخل من أبوابها، وأبواب الرجال عقولها. في هذه اللحظة انفرجت أسارير الأب، وقرر أن يخلفه هذا الابن لأنه أدرك قيمة نفسه، وأدرك قيمة الناس الذين يخاطبهم.
هذه القصة كانت من بين القصص التي تحكيها جدتي _رحمها الله_ والتي تجعلني أتأمل في أحداثها وأقيس من خلالها حال الناس، وكيف أن بعضهم يتمتع بثقة عالية بالنفس، رغم جهلهم؛ مثل ما حدث من ابني الخطيب الذين أحسا بثقة عالية بأنفسهما، في مقابل أنهما قللا من شأن جماعة المصلين، في حين أن الابن الثالث كان يشك في أن يصل إلى عقول المصلين، ويبحث عن الطرق التي تمكنه من إقناعهم، والرفع من شأنهم. وهذا ما قال عنه الفيلسوف(برتراند راسل): ” مشكلة العالم هي أن الأغبياء تملؤهم الثقة، أما أصحاب المعرفة والحكماء فتملؤهم الشكوك”. وهذه الظاهرة النفسية والاجتماعية أصبحت للأسف متفشية في عصرنا الحالي بشكل كبير، وعلى شتى الأصعدة، خصوصًا في قنوات التواصل الاجتماعي، وهذا من بين الأسباب التي جعلتني أتعمق أكثر لأبحث عن سبب هذه الثقة خصوصًا بعد أن قرأت ما قاله عالم الطبيعة(داروين): ” الجهل يولد الثقة أكثر مما تفعله المعرفة”. فربطت بين ما تحمله الحكاية من مغزى وبين منحنى تأثير دانينغ كـروجر، والذي سيوضح سر ثقة الأغبياء!!
فهناك انحياز معرفي واعتقاد عند بعض الناس حول تفوقهم على الأفراد الآخرين. حيث يقوم الفرد بتضخيم ايجابياته وتصغير سلبياته. وينتج عنه سوء تقدير للقدرات الذاتية والبيئة المحيطة، وهذا التأثير هو السبب الذي يجعل الناس أغبياء في كثير من الأحيان.
منحنى تأثير دانينغ كـروجر هو عبارة عن دراسة معقدة أجريت عام 1999م، هدفت إلى رصد تدرج مستوى التفكير والخبرات والمهارات ، وكانت نتيجتها رسم علاقة بين مستوى ( الثقة ) و ( المعرفة ) لأي شخص .
ففي المستوى الأول يصبح الإنسان جـاهل ومعرفته محدودة جدًا، و في نفس الوقت ثقته بنفسه – وهو جاهل – مرتفعة جدًا، وهنا يكون وصل إلى قمة الغباء.
ومع مرور الوقت ، يبدأ لديه الإحساس بغبائه وجهله، فتبدأ ثقته بنفسه تنهـار تدريجيًا مع وجود مصدر معرفي ورصد لظواهر محيطة، إلى أن يصل إلى قــاع الشك أو اليأس.
وجوده في قاع الشك يجعله يسعى للمعرفة بشكل أكبر، فيبدأ يتعلم ويعرف ويقرأ ويفهم ، وبالتالي فإن وعيه يزيد، وثقته تبدأ تزيد تدريجيًا مرة أخرى مدعـومة بالمعرفة.
في هذه المرحلة يصل إلى مرحلة التنويـر، وهي المنطقة الوسطى التي تجعل الإنسان أكثر حكمة، وهدوء ووعي، وبوادر قدرة على التمييز بين المفيد وغير المفيد.
وفي المرحلة ما قبل النهائية يصل إلى منطقـة معرفية متقدمة تجعله يضمن استمرار تحصيله المعرفي، وزيادة ثقته بنفسه حتى يصل لمرحلة العالم أو الخبير.
وعند وصوله إلى مرحلة العالِم ،سيصبح لديه وعي كافي بأنه واعي، ولديه وعي كافي بذكاء وغباء الآخرين، وقادر على إدراك نفسه وموقعه، وستتكون لديه ثقة عالية بنفسه، ولكن أقل من ثقـة الجاهل بنفسه.
نجد أن هذا المنحنى يفسر كل ظواهر الحياة تقريبًا؛ على مستوى العائلة، الوظيفة، تنمية مهارة معينة، العصبية في المجتمعات، التطرف. فالجميع يمر بتأثير دانينغ كروجر بكل مراحله، لذلك لابد من أن نتعلم بأن نساعد بعضنا على اكتساب المعرفة، ونصبر على البعض الآخر. لكن من السيء وجود أشخاص يبقون في مستوى( قمة الغباء )، والبعض في مستوى( قاع الشك ) دون أن يتقدم للأمام، فهؤلاء غالبا أصواتهم عالية، جهلة، ومزعجين.
وقد ذكرني تأثير هذا المنحى بتصنيف الخليل بن أحمد فقد صنف الرجال إلى أربعة أصناف؛ حيث قال: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه.
فهنا بين لنا التصنيفات وكيف نتصرف مع كل فئة. ولعل الشاعر أبو العلاءالمعري اختصر لنا الحل في هذين البيتين:
ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا تجاهلت حتى ظن أني جاهلُ
فواعجبا! كم يدعي الفضل َناقصا و و أسفا! كم يظهر النقص فاضلُ
فلك الخيار عزيزي القارئ بأن تأخذ بقول الخليل أو المعري تجاه من يصادفك من الواثقين!!!